فصل: النوع الخامس: في الموازنة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر (نسخة منقحة)



.النوع الخامس: في الموازنة:

وهي أن تكون ألفاظ الفواصل من الكلام المنثور متساوية في الوزن، وأن يكون صدر البيت الشعري وعجزه متساوي الألفاظ وزناً، وللكلام بذلك طلاوة ورونق، وسببه الاعتدال؛ لأنه المطلوب في جميع الأشياء، وإذا كانت مقاطع الكلام معدلةً وقعت من النفس موقع الاستحسان، وهذا لا مراء فيه لوضوحه.
وهذا النوع من الكلام هو أخو السجع في المعادلة دون المماثلة؛ لأن في السجع اعتدالاً وزيادة على الاعتدال، وهي تماثل أجزاء الفواصل لورودها على حرف واحد، وأما الموازنة ففيها الاعتدال الموجود في السجع، ولا تماثل في فواصلها؛ فيقال إذاً: كل سجع موازنة، وليس كل موازنة سجعاً، وعلى هذا فالسجع أخص من الموازنة فمما جاء منها قوله تعالى: {وآتيناهما الكتاب المستبين وهديناهما الصراط المستقيم} والمستبين والمستقيم على وزن واحد.
وكذلك قوله تعالى في سورة مريم عليها السلام: {واتخذوا من دون الله آلهةً ليكونوا لهم عزًا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدًا ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزًا فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدًا}.
وكذلك قوله تعالى في سورة حم عسق: {والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضةٌ عند ربهم وعليهم غضبٌ ولهم عذابٌ شديدٌ الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريبٌ يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها يعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلالٍ بعيدٍ الله لطيفٌ بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذابٌ أليمٌ ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقعٌ بهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير} وهذه الآيات جميعها على وزن واحد، فإن: {شديد} و{قريب} و{بعيد} و{عزيز} و{نصيب} و{أليم} و{كبير} كل ذلك على وزن فعيل، وإن اختلف حروف المقاطع التي هي فواصلها.
وأٍمثال هذا في القرآن كثير، بل معظم آياته جاريه على هذا النهج، حتى إنه لا تخلوا منه سورة من السور، ولقد تصفحته فوجدته لا يكاد يخرج منه شيء عن السجع والموازنة.
وأما ما جاء من هذا النوع شعراً فقول ربيعة بن ذؤابه:
إن يقتلوك فقد ثلت عروشهم ** بعتيبة بن الحرث بن شهاب

بأشدهم بأساً على أصحابه ** وأعزهم فقداً على الأصحاب

فالبيت الثاني هو المختص بالموازنة؛ فإن بأساً وفقداً على وزن واحد.

.النوع السادس: في اختلاف صيغ الألفاظ واتفاقها:

وهو من هذه الصناعة بمنزلة علية، ومكانة شريفة، وجل الألفاظ اللفظية منوطة به، ولقد لقيت جماعة من مدعي فن الفصاحة، وفاوضتهم وفاوضوني، وسألتهم وسألوني، فما وجدت أحداً منهم تيقن معرفة هذا الموضع كما ينبغي، وقد استخرجت فيه أشياء لم أسبق إليها، وسيأتي ذكرها هاهنا.
أٍما اختلاف صيغ الألفاظ فإنها إذا نقلت من هيئة إلى هيئة؛ كنقلها مثلاً من وزن من الأوزان إلى وزن آخر وإن كانت اللفظة واحدة، أو كنقلها من صيغة الاسم إلى صيغة الفعل، أو من الفعل إلى صيغة الفعل الاسم، أٍو كنقلها من الماضي إلى المستقبل أو من المستقبل إلى الماضي، أو من الواحد إلى التثنية أو إلى الجمع أو إلى النسب أو إلى غير ذلك؛ انتقل قبحاً فصار حسناً، وحسنها صار قبحاً.
فمن ذلك لفظة خود فإنها عبارة عن المرأة الناعمة، وإذا نقلت إلى صيغة الفعل قيل خود على وزن فعل- بتشديد العين- ومعناها أسرع، يقال: خود البعير؛ إذا أسرع؛ فهي على صيغة الاسم حسنة رائقة، وقد وردت في النظم والنثر كثيراً، وإذا جاءت على صيغة الفعل لم تكن حسنة، كقول أبي تمامٍ:
و إلى بني عبد الكريم تواهقت ** رتك النعام رأى الظلام فخودا

وهذا يقال على أشباهه وأنظاره، إلا أن هذه اللفظة التي هي خود قد نقلت عن الحقيقة إلى المجاز، فخف عنها ذلك القبح قليلاً؛ كقول بعض شعراء الحماسة:
أقول لنفسي حين خود رألها ** رويدك لما تشفقي حين مشفق

رويدك حتى تنظري عم تنجلي ** غيابة هذا البارق المتألق

والرأل: النعام، والمراد به هاهنا أن نفسه فرت وفزعت، وشبه ذلك بإسراع النعام في فراره وفزعه، ولما أورده على حكم المجاز خف بعض القبح الذي على لفظة خود، وهذا يدرك بالذوق الصحيح، ولا خفاء بما بين اللفظة في إيرادها هاهنا وإيرادها في بيت أبي تمام؛ فإنها وردت في بيت أبي تمام قبيحة سمحة، ووردت هاهنا بين بين.
ومن هذا النوع لفظة ودع وهي فعل ثلاثي لا ثقل بها على اللسان، ومع ذلك فلا تستعمل على صيغتها الماضية إلا جاءت غير مستحسنة، ولكنها تستعمل مستقلة، وعلى صيغة الأمر، فتجيء حسنة، أما الأمر فكقوله تعالى: فدعهم * يخوضوا ويلعبوا، ولم تأت في القرآن الكريم إلا على هذه الصيغة.
ــــــــــــــ
* كذا ذكر المؤلف وهو خطأ، والصواب: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} وكان الأولى به أن يستشهد بقوله تعالى: {وَدَعْ أَذَاهُمْ}.
ــــــــــــــ
وأما كونها مستقبلة فكقول النبي صلى الله عليه وسلم وقد واصل في شهر رمضان فواصل معه قوم: «لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالاً يدع له المتعمقون تعمقهم» وقال أبو الطيب المتنبي:
تشقكم بقناعها كل سلهبةٍ ** والضرب يأخذ منكم فوق ما يدع

وأما الماضي في هذه اللفظة فلم يستعمل إلا شاذاً ولا حسن له، كقول أبي العتاهية:
أثروا فلم يدخلوا قبورهم ** شيئاً من الثروة التي جمعوا

وكان ما قدموا لأنفسهم ** أعظم نفعاً من الذي ودعوا

وهذا غير حسن في الاستعمال، ولا عليه من الطلاوة شيء، وهذه لفظة واحدة لم يتغير من حالها شيء، سوى أنها نقلت من الماضي إلى المستقبل لا غير.
وكذلك لفظة وذر، فإنها لا تستعمل ماضية، وتستعمل على صيغة الأمر، كقوله تعالى: {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا} وتستعمل مستقبلة أيضاً، كقوله تعالى: {سأصليه سقر وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر} فهي لم ترد في القرآن إلا على هاتين الصيغتين، وكذلك في فصيح الكلام غير القرآن، وأما إذا جاءت على صيغة الماضي فإنها لا تستعمل، وهي أقبح من لفظة ودع، لأن لفظة ودع قد استعملت ماضية، وهذه لم تستعمل.
وهاهنا فلينعم الخائضون في هذا الفن نظرهم، ويعلموا أن في الزوايا خبايا، وإذا أنعموا الفكر في أسرار الألفاظ عند الاستعمال، وأغرقوا في الاعتبار والكشف؛ وجدوا غرائب وعجائب.
ومن هذا النوع لفظة الأخدع، فإنها وردت في بيتين من الشعر، وهي في أحدهما حسنة رائقة، وفي الآخر ثقيلة مستكرهة، كقول الصمة بن عبد الله من شعراء الحماسة:
تلفت نحو الحي حتى وجدتني ** وجعت من الإصغاء ليتاً وأخدعا

وكقول أبي تمام:
يا دهر قوم من أخدعيك فقد ** أضججت هذا الأنام من خرقك

ألا ترى أنه وجد لهذه اللفظة في بيت أبي تمام من الثقل على السمع والكراهة في النفس أضعاف ما وجد لها من بيت الصمة بن عبد الله من الروح والخفة والإيناس والبهجة، وليس سبب ذلك إلا أنها جاءت موحدة في أحدهما مثناة في الآخر، وكانت حسنة في حالة الإفراد، مستكرهة في حالة التثنية، وإلا فاللفظة واحدة، وإنما اختلاف صيغتها فعل بها ما ترى.
ومن هذا النوع ألفاظ يعدل عن استعمالها من غير دليل يقوم على العدول عنها، ولا يستفتي في ذلك إلا الذوق السليم، وهذا موضع عجيب لا يعلم كنه سره.
فمن لفظ اللب الذي هو العقل، لا لفظة اللب الذي تحت القشر، فإنها لا تحسن في الاستعمال إلا مجموعة، وكذلك وردت في القرآن الكريم في مواضع كثيرة وهي مجموعة، ولم ترد مفردة، كقوله تعالى: {وليتذكر ألو الألباب} و{إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب} وأشباه ذلك، وهذه اللفظة الثلاثية خفيفة على النطق، ومخارجها بعيدة، وليست بمستثقلة ولا مكروهة وقد تستعمل مفردة بشرط أن تكون مضافة أو مضافاً إليها؛ أما كونها مضافاً إليها فكقولنا: لا يعلم ذلك إلا ذو لب، وإن في ذلك لعبرة لذي لب، وعليه ورد قول جرير:
إن العيون التي في طرفها حورٌ ** قتلننا ثم لم يحينا قتلانا

يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ** وهن أضعف خلق الله أركانا

وأما كونها مضافة فكقول النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر النساء: «ما رأيت ناقصات عقلٍ ودينٍ أذهب للب الحازم من إحداكن يا معشر النساء»؛ فإن كانت هذه اللفظة عارية عن الجمع أو الإضافة فإنها لا تأتي حسنة، ولا تجد دليلاً على ذلك إلا مجرد الذوق الصحيح، وإذا تأملت القرآن الكريم ودققت النظر في رموزه وأسراره وجدت مثل هذه اللفظة قد روعي فيها الجمع دون الإفراد كلفظة كوب، فإنها وردت في القرآن مجموعة، ولم ترد مفردة، وهي وإن لم تكن مستقبحة في حال إفرادها فإن الجمع فيها أحسن، لكن قد ترد مفردة مع ألفاظ أخر تندرج معهن فيكسوها ذلك حسناً ليس لها، وذلك كقولي في جملة أبيات أصف بها الخمر وما يجري معها من آلاتها:
ثلاثةٌ تعطي الفرح ** كأسٌ وكوبٌ وقدح

ما ذبح الذوق بها ** إلا وللهم ذبح

فلما وردت لفظة كوب مع الكأس والقدح على هذا الأسلوب حسنها، وكأنه جلاها في غير لباسها الذي كان لها إذ جاءت بمفردها.
وكذلك وردت لفظة رجا بالقصر، والرجا: الجانب، فإنها لم تستعمل موحدة وإنما استعملت مجموعة، كقوله تعالى: {والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذٍ ثمانيةٌ} فلما وردت هذه اللفظة مجموعة ألبسها الجمع ثوباً من الحسن لم يكن لها في حال كونها موحدة، وقد تستعمل موحدة بشرط الإضافة، كقولنا: رجا البئر.
ولربما أخطأ بعض الناس في هذا الموضع وقاس عليه ما ليس بمقيس، وذلك أنه وقف على ما ذكرته هاهنا واقف، وكذلك قد وردت لفظة الصوف في القرآن الكريم ولم ترد إلا مجموعة، كقوله تعالى: {وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتًا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثًا ومتاعًا إلى حينٍ} وهذا بخلاف ما وردت عليه في شعر أبي تمام:
كانوا برود زمانهم فتصدعوا ** فكأنما لبس الزمان الصوفا

وهذا ليس كالذي أشرت إليه فإن لفظة الصوف لفظة حسنة مفردة ومجموعة، وإنما أزرى بها في قول أبي تمام أنها جاءت مجازية في نسبتها إلى الزمان.
وعلى هذا النهج وردت لفظة خبر وأخبار، فإن هذه اللفظة مجموعة أحسن منها مفردة، ولم ترد في القرآن إلا مجموعة.
وفي ضد ذلك ما ورد استعماله من الألفاظ مفرداً ولم يرد مجموعاً، كلفظة الأرض فإنها لم ترد في القرآن إلا مفردة، فإذا ذكرت السماء مجموعة جيء بها مفردة معها في كل موضع من القرآن، ولما أريد أن يؤتى بها مجموعة قيل: {ومن الأرض مثلهن} في قوله تعالى: {الله الذي خلق سبع سماواتٍ ومن الأرض مثلهن}.
ومما ورد من الألفاظ مفرداً فكان أحسن مما يرد مجموعاً لفظة البقعة، قال الله تعالى في قصة موسى عليه السلام: {فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن من البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله} والأحسن استعمالها مفردة لا مجموعة، وإن استعملت مجموعة فالأولى أن تكون مضافة كقولنا: بقاع الأرض، أو ما جرى مجراها.
وكذلك لفظة طيف، في ذكر طيف الخيال، فإنها لم تستعمل إلا مفردة، وقد استعملها الشعراء قديماً وحديثاً فلم يأتوا بها إلا مفردة، لأن جمعها جمع قبيح، فإذا قيل طيوف كان من أقبح الألفاظ وأشدها كراهة على السمع، ويا لله العجب من هذه اللفظة ومن أختها عدة ووزناً وهي لفظة ضيف، فإنها تستعمل مفردة ومجموعة، وكلاهما في الاستعمال حسن رائق، وهذا مما لا يعلم السر فيه، والذوق السليم هو الحاكم على الفرق بين هاتين اللفظتين وما يجري مجراهما.
وأما جمع المصادر فإنه لا يجيء حسناً، والإفراد فيه هو الحسن، ومما جاء في المصادر مجموعاً قول عنترة:
فإن يبرأ فلم أنفث عليه ** وإن يفقد فحق له الفقود

قوله: الفقود جمع مصدر من قولنا: فقد يفقد فقداً، واستعمال هذه اللفظة غير سائغ ولا لذيذ، وإن كان جائزاً ونحن في استعمال ما نستعمله من الألفاظ واقفون مع الحسن لا مع الجواز.
وهذا كله يرجع إلى حاكم الذوق السليم، فإن صاحب هذه الصناعة يصرف الألفاظ بضروب التصريف، فما عذب في فمه منها استعمله، وما لفظه فمه تركه، ألا ترى أنه يقال: الأمة بالضم عبارة عن الجمع الكثير من الناس، ويقال: الإمة بالكسر وهي النعمة، فإن الأمة بالضم لفظة حسنة وبالكسر ليست بحسنة، واستعمالها قبيح.
ورأيت صاحب كتاب الفصيح قد ذكرها فيما اختاره من الألفاظ الفصيحة، ويا ليت شعري ما الذي رآه من فصاحتها حتى اختارها؟ وكذلك قد اختار ألفاظاً أخر ليست بفصيحة، ولا لوم عليه، لأن صدور مثل ذلك الكتاب عنه كثير، وأسرار الفصاحة لا تؤخذ من علماء العربية وإنما تؤخذ منهم مسألة نحوية أو تصريفية، أو نقل كلمة لغوية، وما جرى هذا المجرى، وأما أسرار الفصاحة فلها قوم مخصوصون بها. وإذا شذ عن صاحب كتاب الفصيح ألفاظ معدودة ليست بفصيحة في جملة كثيرة ذكرها من الفصيح فإن هذا منه كثير.
ومما يذكر في هذا الباب أنه يقال: سهم صائب، فإذا جمع الجمع السحن الذي يعذب في الفم قيل: سهام صوائب وصائبات وصيب، فإذا جمع الجمع الذي يقبح قيل: سهام: صيب، على وزن كتب فقال أبو نواس:
ما أحل الله ما صنعت ** عينه تلك العشية بي

قتلت إنسانها كبدي ** بسهامٍ للردى صيب

فقوله سهامٍ صيب من اللفظ الذي ينبو عنه السمع، ويحيد عنه اللسان، ومثله ورد قول عويف القوافي من أبيات الحماسة:
ذهب الرقاد فما يحس رقاد ** مما شجاك ونامت العواد

لما أتاني من عيينة أنه ** أمست عليه تظاهر الأقياد

فقوله أقياد في جمع قيد مما لا يحسن استعماله، بل الحسن أن يقال في جمعه: قيود، وكذلك قول مرة بن محكان التميمي من أبيات الحماسة وذلك من جملة الأبيات المشهورة التي أولها:
يا ربة البيت قومي غير صاغرةٍ ** ضمي إليك رحال القوم والقربا

فقال فيها:
ماذا ترين أندنيهم لأرحلنا ** في جانب البيت أم نبني لهم قببا

فإنه جمع قبة على قبب، وذلك من المستبشع الكريه، والأحسن المستعمل هو قباب لا قبب، وكذلك يجري الأمر في غير هذا.
ومن المجموع ما يختلف استعماله، وإن كان متفقاً في لفظة واحدة كالعين الناظرة وعين الناس وهو النبيه فيهم، فإن العين الناظرة تجمع على عيون، وعين الناس تجمع على أعيان، وهذا يرجع فيه إلى الاستحسان لا إلى جائز الوضع اللغوي.
وقد شذ هذا الموضع عن أبي الطيب المتنبي في قوله:
والقوم في أعيانهم خرزٌ ** والخيل في أعيانها قبل

فجمع العين الناظرة على أعيان، وكان الذوق يأبى ذلك ولا تجد له على اللسان حلاوة وإن كان جائزاً.
ولولا خوف الإطالة لأوردت من هذا النوع وأمثاله أشياء كثيرة وكشفت عن رموز وأسرار تخفى على كثير من متعاطي هذا الفن، لكن في الذي أشرت إليه منبه لأهل الفطانة والذكاء أن يحملوه على أشباهه ونظائره.
وأعجب من ذلك كله أنك ترى وزناً واحداً من الألفاظ، فتارةً تجد مفرده حسناً، وتارة تجد جمعه حسناً، وتارة تجدهما جميعاً حسنين، فالأول نحو حبرور وهو فرخ الحبارى، فإن هذه اللفظة يحسن مفردها لا مجموعها، لأن جمعها على حبارير، وكذلك طنبور وطنابير، وعرقوب وعراقيب، وأما الثاني فنحو بهلول وبهاليل، ولهموم ولهاميم، وهذا ضد الأول، وأم الثالث فنحو جمهور وجماهير، وعرجون وعراجين، فانظر إلى الوزن الواحد كيف يختلف في أحواله مفرداً ومجموعاً؟ وهذا من أعجب ما يجيء في هذا الباب.
وهكذا قد جاءت ألفاظ على وزن واحد ثلاثية مسكنة الوسط وجميعها حسن في الاستعمال، وإذا أردنا أن نثقل وسطها حسن منها شيء دون شيء.
فمن ذلك لفظة الثلث والربع إلى العشر فإن الجميع على وزن واحد، وإذا ثقلنا أوساطها فقلنا ثلث وربع وخمس، وكذلك إلى عشر، فإن الحسن من ذلك جميعه ثلاثة، وهي الثلث والخمس والسدس، والباقي وهو الربع والسبع والثمن والتسع والعشر، ليس كالأول في حسنه هذا والجميع على وزن واحد وصيغة واحدة والجميع حسن في الاستعمال قبل أن يثقل وسطه، ولما ثقل صار بعضه حسناً وبعضه غير حسن.
وكذلك تجد الأمر في أسماء الفاعلين كالثلاثي منها نحو فعل بفتح الفاء والعين وفعل بفتح الفاء وكسر العين وفعل بفتح الفاء وضم العين، فإن هذه الأوزان الثلاثة لها أسماء فاعلين، أما فعل بفتح الفاء والعين فليس له إلا اسم واحد أيضا وهو فاعل، ولا يقع فيه اختلاف، وكذلك فعل بفتح الفاء وضم العين فليس له إلا اسم واحد أيضاً، وهو فعيل، ولا يقع فيه اختلاف إلا ما شذ، لكن فعل بفتح الفاء وكسر العين يقع في اسم فاعله الاختلاف استحساناً واستقباحاً، لأن له ثلاثة أوزان نحو فاعل وفعل وفعيل، تقول منه: حمد فهو حامد وحمد وحمدان، وقد يقال: فارح ولا فرحان، وإن كان جائزاً، لكن فرحان أحسن من فارح، وقد وردت هذه اللفظة في القرآن الكريم فلا تستعمل إلا على فرحٍ لا غير، كقوله تعالى: {كل حزبٍ بما لديهم فرحون} وكقوله تعالى: {إن الله لا يحب الفرحين} وقد جاءت هذه اللفظة في شعر بعض شعراء الحماسة في باب المراثي:
فما أنا من حزنٍ وإن جل جازعٌ ** ولا بسرورٍ بعد موتك فارحٌ

وهذا غير حسن وإن جاز استعماله.
وعلى نحو منه يقال: غضب وهو غضبان، ولا يقال: غاضب، وإن كان جائزاً وقد تقدم القول أنا في تأليف الكلام بصدد استعمال الحسن والأحسن، لا بصدد استعمال الجائز وغير الجائز.
ومما يجري هذا المجرى قولنا: فعل وافتعل، فإن لفظة فعل لها موضع تستعمل فيه، ألا ترى أنك تقول قعدت إلى فلان أحدثه، ولا تقول: اقتعدت إليه، وكذلك تقول: اقتعدت غارب الجمل، ولا تقول: قعدت على غارب الجمل، وإن جاز ذلك، لكن الأول أحسن، وهذا لا يحكم فيه غير الذوق السليم، فإنه لا يمكن أن يقام عليه دليل.
وأما فعل وافعوعل فإنا نقول: أعشب المكان، فإذا كثر عشبه قلنا: اعشوشب، فلفظة افعوعل للتكثير، على أني استقريت هذه اللفظة في كثير من الألفاظ فوجدتها عذبة طيبة على تكرار حروفها كقولنا: اخشوشن المكان، واغرورقت العين، واحلولى الطعم، وأشبهها.
وأما فعلة نحو همزة وجثمة ونومة ولكنة ولجنة، وأشباه ذلك فالغالب على هذه اللفظة أن تكون حسنة، وهذا أخذته بالاستقراء، وفي اللغة مواضع كثيرة هكذا لا يمكن استقصاؤها.
فانظر إلى ما يفعله اختلاف الصيغة بالألفاظ، وعليك أن تتفقد أمثال هذه المواضع، لتعلم كيف تضع يدك في استعمالها، فكثيراً ما يقع فحول الشعراء، والخطباء في مثلها، ومؤلف الكلام من كاتب وشاعر إذا مرت به ألفاظ عرضها على ذوقه الصحيح، فما يجد الحسن منها مجموعاً جمعه، وكذلك يجري الحكم فيما سوى ذلك من الألفاظ.

.النوع السابع: في المعاظلة اللفظية:

والمعاظلة اللفظية: لفظية ومعنوية.
أما المعنوية: فسيأتي ذكرها في باب التقديم والتأخير من المقالة الثانية، فليؤخذ من هناك.
وأما المعاظلة اللفظية: وهي المخصوصة بالذكر هاهنا في باب صناعة الألفاظ وحقيقتها مأخوذة من قولهم تعاظلت الجرادتان، إذا ركبت إحداهما الأخرى، فسمي الكلام المتراكب في ألفاظه أو في معانيه المعاظلة مأخوذاً من ذلك وهو اسم لائق بمسماه.
ووصف عمر بن الخطاب رضي الله عنه زهير بن أبي سلمى فقال: كان لا يعاظل بين الكلام.
وقد اختلف علماء البيان في حقيقة المعاظلة: فقال قدامة بن جعفر الكاتب: التعاظل في الكلام هو أن يدخل بعض الكلام فيما ليس من جنسه، ولا أعرف ذلك إلا فاحش الاستعارة، كقول أوس بن حجر:
وذات هدمٍ عار نواشرها ** تصمت بالماء تولباً جدعا

فسمي الظبي تولباً، والتولب: ولد الحمار.
هذا ما ذكره قدامة بن جعفر، وهو خطأ، إذ لو كان ما ذهب إليه صواباً لكانت حقيقة المعاظلة دخول الكلام فيما ليس من جنسه، وليست حقيقتها هذه، بل حقيقتها ما تقدم وهو التراكب، من قولهم: تعاظلت الجرادتان، إذا ركبت إحداهما الأخرى، وهذا المثال الذي مثل به قدامة لا تركب في ألفاظه ولا في معانيه وأما غير قدامة فإنه خالفه فيما ذهب إليه، إلا أنه لم يقسم المعاظلة إلى لفظية ومعنوية، ولكنه ضرب لها مثالاً كقول الفرزدق:
وما مثله في الناس إلا مملكاً ** أبو أمه حيٌ أبوه يقاربه

وهذا من القسم المعنوي، لا من القسم اللفظي، ألا ترى إلى تراكب معانيه بتقديم ما كان يجب تأخيره وتأخير ما كان يجب تقديمه، لأن الأصل في معناه: وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملكاً أبو أمه أبوه، وسيجيء شرح ذلك مستوفى في بابه من المقالة الثانية، إن شاء الله تعالى.
وإذا حققت القول في بيان المعاظلة والكشف عن حقيقتها فإني أتبع ذلك بتقسيم القسم اللفظي منها الذي أنا بصدد ذكره هاهنا فأقول: اقسام المعاظلة اللفظية إني تأملت بالاستقراء من الأشعار قديمها ومحدثها، ومن النظر في حقيقتها نفسها، فوجدتها تنقسم إلى خمسة أقسام: